بقلم د. إبراهيم ليتوس
بعد دراسة تفيد الإثارة المستفزة والخطط الإيديولوجية النارية ، نطق أردوغان بقرار إعادة الهيكل الديني لآيا صوفيا وتحويلها من كنيسة إلى مسجد وهو ما أشعل فتيل الغضب في تركيا وخارجها ما بين مؤيد ومعارض , وهو ما يدفعنا لوضع قراءة بعدية تحليلية عما يحدث وما قد يحول قرار أردوغان الى إعادة الصراع الديني بين المسلمين والمسيحيين إلى نقطة الصفر أو اللاعودة أصلا
وهذا ما دفع بالأمين العام للمجلس الكنسي العالمي البروفيسور د. لووان سوكا ( يمثل هذا المجلس أكثر من 550 مليون مسيحي ويضم في عضويته 350 كنيسة من 120 دولة مختلفة عبر العالم ) إلى إصدار بيان استنكاري ونداء إلى الرئيس التركي أردوغان يوم 11 من شهر يوليوز ، يدعوه فيه إلى مراجعة قراره في خطوات تحويل آيا صوفيا إلى مسجد . ذكر البيان كذلك, عدم نسف جهود الحوار الديني الذي تم بناءه لسنوات والإبقاء على بناء الجسور بين المسلمين والمسيحيين والاستمرار فيه وأنه من الأجدر والأولى الإحتفاظ بهذه المعلمة التاريخية ، كإرث إنساني مشترك ، تمشيا مع توصيات منظمة اليونيسكو الدولية بذلك
و اما عن طبيعة هذا التحويل فنسائل الرئيس أردوغان بالسؤال التالي
هل ما يحدث اليوم بآيا صوفيا هو مجرد شراء لمبنى بعقد بيع قديم ، مستوفي الشروط بمال السلطان محمد الفاتح من نصارى الأرثوذكس ؟
أم أنها قضية و صفقة بالتراضي بين بائع ومشتري ؟
وهل أصلا شراء أماكن العبادات الديانات الأخرى ، جائزة إذا كانت هناك سياسة إقصائية، الغرض منها إحداث الضرر بطائفة معينة سواء كان ذلك بقصد أو بغير قصد وحينما تكون مفسدتها أكبر ؟
وهل أصلا هذه التحولات التي تقع للأماكن والبقاع في أيامنا هذه ، يقصد منها حقيقة ، ان ترفع فيها كلمات الله وان يذكر فيها اسمه، كما يزعمون ؟ ونحن نعلم وفق إحصائيات رسمية أن عدد المساجد في تركيا لعام 2013 بلغ أكثر من 82.693 مسجدا ومعنى ذلك أن تركيا لاتشكو من نقص في المساجد وأن تحويل آيا صوفيا الى مسجد سيغير أو ينقص من ذكر ورفع اسم الله في أرض تركيا المسلمة
والغريب أن بعض المناصرين والمؤيدين لهذه السياسة الممنهجة ، إما جهلا بالدين أو عشقا لتوظيف السياسي بالديني نراه دائما يتكرر وبنفس الأسلوب . فقد سافر استشهادهم إلى التاريخ الأندلسي ، حينما تحولت المساجد آنذاك إلى كنائس كما حصل في قرطبة و غرناطة وغيرها من المدن .عندما سقط الحكم الإسلامي وكما حصل أخيرا بالتعسف المماثل مع مسجد بابري في الهند وكما يحصل الآن للمسجد الأقصى في فلسطين . وكأن لسان حالهم يقول: هم يحولون أو يحاولون فلنا الحق أيضا في ذلك إذن , وكأن القضية مقايضة وردة فعل متناسين أن سياسة التحويل أو الإكراه في التحويل لم تكن يوما من الأيام إسلامية ولا إنسانية
فالإسلام جاء بالعدل مع الجميع ولا تحركه المعاملات بالمثل . وجاء لفتح العقول والقلوب، لا ليحول الكنائس إلى مساجد ولا المعابد إلى مصليات
وهنا يستوقفني بعض من تاريخ بناية آيا صوفيا كيف كانت وكيف ستصبح
بنيت الكنسية سنة 537م
وتحولت إلى متحف سنة 1935
واليوم ستصبح مسجدا سنة 2020
فحينما تحولت من كنسية إلى متحف لم يكن هذا التحويل سياسيا ولا دينيا ولا من أجل انتقام أو صراع عقائدي. لكن تحويلها اليوم بقرار رئاسي إلى مسجد مع الضغط والتحدي إنما يقصد منه إبراز عضلات القوة باستعمال الدين وهذا يفسره المختصون الحكماء على أنه إرهاب دولة ليس إلا…………ا
ويحضرنا قول المصطفى « صلعم » لا تخن من خانك.إن مبدأ المعاملة بالمثل حتى ولو عمل به أحيانا في الحروب لم يكن هو المنهج القرآني الراقي …ففوق ثقافة التعامل بالمثلية توجد ثقافة التسامح والقيم العليا و الطريقة المثلى كما قال تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم… ..الاية ..ولا بأس هنا ولمن يعتمد في تأييده لقرار الرئيس أردوغان أن نشير فقهيا إلى ما يلي
تشير بعض كتب الفقه الإسلامي إلى أن الحكم الشرعي في المسألة، راجع الى طريقة الفتح التي تمت بها تلك البلدان وبالتالي فإن الفرق بين الأراضي التي فتحت صلحا والتي فتحت عنوة ، هو بزعمهم الفيصل والمرجح الوحيد لتحويل الأراضي، بما فيها السماح أو جواز تحويل المعابد إلى مساجد أم لا ؟ وهذا كله مردود عليهم بالنقل والعقل . لذلك قد يستدل البعض بهذه الأدلة الفقهية ، سطحيا كما يقع أحيانا من طرف المجموعات المتطرفة في تقسيم الديار إلى أحكام غريبة جدا و في نفس الوقت مجانبة للصواب .، إذ يعتبرون البلدان الغير الإسلامية دار حرب ويجوز مقاتلة أهلها والسطو على ممتلاكاتها بل واعتبارها غنيمة من الغنائم بناء على هذا القياس الفاسد مع أن في العهدة العمرية كمثال للفتح صلحا وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في » خيبر » حيث صالحهم وأبقاهم على معابدهم وهو الفتح عنوة ،كلها أدلة واضحة على الإعمال بمبدإ المصلحة العليا التي تقتضي في عصرنا الحالي بالبقاء والحفاظ على كل مجموعة دينية لمعابدها دون الدخول في سياسة التحول وإخضاع ذلك إلى ما هو سياسي وإيديولوجي
ونحذر وننصح بعدم السقوط في ما يسمى بالخطأ التفكيري في مثل هذه القضايا لأننا نجد أن هذا التحول بأمر كبير التركيين المسلم وفي هذه الظروف هو تسييس للدين أو تديين للسياسة فلا هذا مقبول ولا الأخرى مسوغة ، وليس لها مكان في عالمنا الذي أصبحت فيه التعددية وحرية المعتقد والتدين من الحقوق الأساسية لكل فرد وجماعة
ولو كان هدف الإسلام أو قل خيرية المسلمين تتجلى في تحويل الكنائس إلى مساجد أو بعض المعابد إلى مصليات لما وجدت طوائف نصرانية ولا مجموعات يهودية يحتفظون بدينهم ولا بأماكن عبادتهم الى يومنا هذا .وتاريخ الإسلام والمسلمين شاهد على ذلك و يقول عكس ذلك تماما ، فكان المسلمون حينما يدخلون بلدا ما يتركون أهل الملل و الديانات على دينهم ولا يكرهونهم على الدخول في الإسلام وتبقى أماكن عبادتهم لها حرمتها وقيمتها … « ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا » الآية . بل إن الشواهد التاريخية تؤكد لنا خلاف ذلك تماما . لأن سيدنا عمر بن الخطاب على جلالة قدره ورجاحة فكره أعطى صورة قوية ومشرفة للتسامح والعيش المشترك ، إذ أنه حينما استلم القدس رفض ان يصلي في كنيسة القيامة..وقال كلمته التاريخية ليبين سبب رفضه للصلاة فيها …فقال رضي الله عنه :.. » لئلا يأتي المسلمون من بعدي ويأخذوها ويقولون هنا سجد عمر » ……فبني بعدها مسجد عمر وهو الآن متواجد إلى يومنا هذا بهذا الإسم وأكد على أروع المثل في التسامح واحترام أماكن عبادة الغير لكي لا يأتي بعده من يدعي انه يتبع نهج الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتنسب اليه حماقات البعض باسم الدين زورا وبهتانا.
ومما يحسن استخلاصه في دراستنا هاته ، أن دولا إسلامية أخرى لاسيما المغرب بقيادة أمير المؤمنين الملك محمد السادس ، الذي يعتبر اليوم، قمة و نموذجا يحتذى به في التسامح والعيش المشترك بين أهل الديانات والطوائف كلها ، من يهودية ونصرانية وغيرها ، تسلك سياسة مغايرة تماما ولن تسمح يوما ما أن تتحول كنيسة تاريخية أو معبدا قديما إلى مسجد كما حصل اليوم بتركيا . بل تجدر الإشارة الى توصيات راعي الكنيسة حينما قام البابا بزيارة تاريخية للمغرب عام 2019 ، أكد فيه أمام العالم آنذاك في القداس الذي أقيم في الكنيسة ،على منع القيام بالتبشير في المغرب وهذا هو الكفيل على الحفاظ على السلم والأمن العالمي وضمان القضاء على التعصب الديني والإرهاب الفكري والمادي في العالم